الشّيخ البشير الإبراهيمي.. مجدِّد الحركة العلميّة في الجزائر
وُلِدَ الإمام محمّد البشير الإبراهيمي في قصر الطير بدائرة سطيف، وهي قرية تقع على مقربة من بلدة رأس الوادي، فجر يوم الخميس في 13 شّوال 1306هـ، الموافق لـ14 جوان 1889.
تُعرَف قبيلته بأولاد إبراهيم بن يحيى بن مساهل، ويرجِع نسبه إلى إدريس بن عبد اللّه الجدّ الأوّل للأشراف الأدارسة، وكانوا يُسمّونه إدريس الأكبر، وإليه ترجع أنساب الأشراف الحسنيين في المغربين: الأقصى والأوسط.
وبيته إحدى البيوت الّتي حفظت رسم العلم وتوارثته قرونًا من لدن خمول بجاية وسقوطها في القرن التاسع الهجري، وقد كانت بجاية دار هجرة للعلم، وخصوصًا للأقاليم المتاخمة لها، وقد خرج من عمود نسبه بالذات في هذه القرون الخمسة علماءُ في العلوم العربية، ونشروها بهمّة واجتهاد في الأقاليم المجاورة لإقليمه، ومنهم مَن هاجر إلى القاهرة في سبيل الاستزادة من العلم والتوسّع فيه، رغم صعوبة الهجرة إذ ذاك، ومن آثار الاتصال بالقاهرة أنّهم بعد رجوعهم سمَّوا أبناءهم بأسماء كبار مشايخ الأزهر، إذ منهم مَن تَسمّى بالأمير والصاوي والخرشي والسنهوري.
وكان أبوه من الوطنيين المناوئين للاستعمار الفرنسي، ولقد اضطهده المستعمرون، ما اضطرّه إلى مغادرة الجزائر والهجرة إلى المدينة المنورة، تاركًا ابنَه وهو في السادسة عشرة من عمره.
نشأ البشير في بيت والده كما ينشأ أبناء بيوت العلم. وكانت ملامح الذّكاء المتوقّد قد ظهرت مبكّرة لدى البشير، فأظهر منذ صغره ميلاً شديدًا لتحصيل العلم وحبًّا عميقًا للقرآن الكريم. وقد توسَّم الأب والعمّ في البشير علامات التفوُّق والنبوغ، فتعهّده عمُّه.
ولمّا بلغ سبع سنين تولّى عمّه تربيته وتعليمه بنفسه، فكان لا يفارقه لحظة حتى في ساعات النوم، فحفظ فنون العلم المهمة في ذلك السن، مع استمراره في حفظ القرآن، فلمّا بلغ تسع سنين من عمره حفظ القرآن مع فهم مفرداته وغريبه، وحفظ معه ألفية ابن مالك ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وحفظ الكثير من شعر أبي عبد اللّه بن خميس التلمساني شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف بن أبي عميرة، وابن الخطيب، ثمّ أرشده عمّه إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظ صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبه بعد رحلته إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين، وحفظ ديوان الحماسة، وحفظ كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان.
وفي عنفوان هذه الفترة، حفظ بإرشاد عمّه كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكته اللغوية.
كما أخذ مختلف فنون العلم عن الشيخ ربيع قري اليعلاوي، والشيخ محمد أبو القاسم البُوجْلِيلِي، والشيخ محمد أبو جمعة القُلِّي، ولم يكن هؤلاء العلماء رحلوا إلى الأمصار الكبرى ذات الجماعات العلمية التاريخية كفاس وتونس والقاهرة، وإنما كانوا يتوارثون العلوم الإسلامية طبقة عن طبقة إلى الأجيال المتخرجة من مدن العلم الموجودة بوطننا كبجاية وقلعة بني حماد وغيرهما.
ولم يزل عمّه رحمه اللّه يتدرّج به من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظها حتّى بلغ الحادية عشرة من عمره، فبدأ يُدرّسه ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وقبلها أقرأه كتب ابن هشام الصغير قراءة تفهّم وبحث.
ولمّا بلغ البشير أربع عشرة سنة، مرض عمّه مرض الموت، فكان يُلقّنه ويفيده وهو على فراش الموت، بحيث ختم الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة.
توليه التدريس
لمّا مات عمّه، شرع في تدريس العلوم التي درسها عليه، وأجازه بتدريسها، وعمره أربع عشرة سنة، لطلبته الذين كانوا زملاءه في الدراسة عليه، وانهال عليه طلبة العلم من البلدات القريبة، والتزم والده بإطعامهم والقيام عليهم كالعادة في حياة عمّه، وربّما انتقل في بعض السنين إلى المدارس القبلية القريبة منه لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة وتيسّر المرافق بها للسكنى.
السفر إلى القاهرة
ولبث الإمام البشير يُمارِس مهنة التّدريس حتّى بلغَ العشرين من عمره، فتاقت نفسه إلى الهجرة إلى الشرق، واختار المدينة المنورة لأنّ والده سبقه إليها سنة 1908م فرارًا من ظُلم فرنسا، فالتحق به متخفيًا أواخر سنة 1911م كما خرج هو متخفيًا، ومرّ في وجهته هذه بالقاهرة، فأقام بها ثلاثة أشهر، وحضر بعض دروس العلم في الأزهر، وعرف أشهر علمائها.
وممّن عرفه وحضر دروسه، الشيخ سليم البشري، والشيخ محمد بخيت (درس عليه البخاري) في رواق العباسي، والشيخ يوسف الدجوي (درس عليه البلاغة)، والشيخ عبد الغني محمود والشيخ السمالوطي في المسجد الحسيني، والشيخ سعيد الموجي بجامع الفاكهاني. وحضر عدّة دروس في دار الدّعوة والإرشاد الّتي أسّسها الشيخ رشيد رضا في منيل الروضة. وزار الإمام البشير شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي وأسمعه عدّة قصائد من شعره من حفظه، فتهلّل رحمه اللّه واهتزّ. كما اجتمع بشاعر النيل حافظ إبراهيم في بعض أندية القاهرة وأسمعه من حفظه شيئًا من شعره كذلك.
وفي أثناء وجود الإمام البشير في القاهرة خلال هذه الفترة من جهاده، انتُخِب عضوًا بمجمع اللغة العربية، وكان قبل ذلك قد انتخِب عضوًا بالمجمع العلمي بدمشق والمجمع العلمي بمدينة بغداد.
في المدينة المنورة
خرج الإمام البشير من القاهرة قاصدًا المدينة المنوّرة، فركب البحر من بور سعيد إلى حيفا، ومنها ركب القطار إلى المدينة المنورة، وكان وصوله إليها في أواخر سنة 1911م، واجتمع بوالده رحمه اللّه، وطاف بحِلَق العلم في الحرم النّبويّ مختبرًا، فلم يرق له شيء منها، “وإنّما غثاء يلقيه رهط ليس له من العِلم والتحقيق شيء”، ولم يجد علمًا صحيحًا إلاّ عند رجلين هما شيخاه: الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، فلازمهما ملازمة الظلّ، وأخذ عن الأوّل الموطأ دراية، ثمّ أدهشه تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازم درسه في فقه مالك، ودرسه في التوضيح لابن هشام، ولازم الثاني في درسه لصحيح مسلم.
وأخذ أيّام مجاورته بالمدينة علم التفسير عن الشيخ الجليل إبراهيم الأسكوبي، وأخذ الجرح والتعديل وأسماء الرجال عن الشيخ أحمد البرزنجي الشهرزوري في داره أيّام انقطاعه عن التدريس في الحرم النّبويّ، وأخذ أنساب العرب وأدبهم الجاهلي، والسِّيرة النّبويّة عن الشيخ محمد عبد اللّه زيدان الشنقيطي. وأتمّ معلوماته في علم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني بمنزله.
وذاكر صاحبه الشيخ أحمد خيرات الشنقيطي سنين عديدة في اللغة والشعر الجاهلي، ومنه المعلّقات العشر، وصاحبه محمد العمري الجزائري، أمّهات الأدب المشهورة خصوصًا الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وختماها مطالعة مشتركة فاحصة متأنية، وكذلك فعلا بكتاب الأغاني من أوّله إلى آخره.
لقاؤه برائد الإصلاح
وكان لقاء الشّيخين الجليلين عبد الحميد بن باديس ومحمّد البشير الإبراهيمي لقاء تاريخيًا، وهو أوّل لقاء يتمّ بين هذين الرجلين العظيمين، في رحاب الحرم الشّريف، على الرّغم من أنّهما كانا ينتميان لوطن واحد، ويُجاهدان في ميدان واحد هو ميدان العلم، وشاءت الأقدار أن يكون لقاؤهما في مكان مقدَّس ليرسُمَا خُطّة العمل من أجل الجهاد المقدّس لنُصرة الشّعب الجزائري، وسببًا من أهم الأسباب الّتي مهّدت لتفجير ثورة الجزائر الكبرى، وانتصارها الرّائع المجيد على المستعمر، وصيرورتها بعد ذلك من أقوى وأعظم الدول في الأمّة العربية.
وقد لبث هذا اللّقاء التاريخي ثلاثة أشهر، وهي المدّة الّتي قضاها الشّيخ عبد الحميد بن باديس في المدينة المنورة. فكانا يلتقيان كلّ ليلة في المسجد النّبويّ الشّريف، ويؤدّيان سوية صلاة العشاء، ثمّ ينصرفان بعد ذلك من المسجد الطاهر إلى دار الإمام الشّيخ محمّد البشير الإبراهيمي، ويقضيان اللّيل بطوله في مناقشة الوضع في وطنهما الجزائر من مختلف النّواحي السياسية والدّينية والاجتماعية، حتّى ينتبِها إلى بزوغ أولى أشعة الفجر، ويتوجّها إلى المسجد النّبويّ الشّريف ليؤدّيَا صلاة الفجر، وهما يدعوان الله العزيز القدير أن يبزغ في الجزائر الحبيبة فجر الحرية والكرامة والاستقلال.
في هذا اللّقاء الخالد بين البطلين تمّ التفكير في إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الّتي تمّ إنشاؤها بعد ذلك في سنة 1931م. والّتي لعبت دورًا بطوليًا خالدًا في التّمهيد لتفجّر ثورة الجزائر العظيمة.
مغادرته المدينة
وقام الشريف حسين بن عليّ بثورته المعروفة سنة 1917م، فأمرت الحكومة العثمانية بترحيل سكان المدينة المنورة كلّهم إلى دمشق. وكان عدد المهجّرين يزيد عن 80 ألفًا، وكان من بينهم الإمام محمّد البشير الإبراهيمي ووالده. أمّا الشّيخ عبد الحميد بن باديس، فكان قد رَحَل قبل ذلك عائدًا إلى وطنه الجزائر، لكي يبدأ فورًا في تنفيذ الأفكار والمخطّطات الّتي رسمها مع الإمام البشير إبّان لقائهما في المدينة المنورة.
في دمشق
ما لبث شهرًا في حاضرة الشّام حتّى تنافست عليه المدارس الأهلية للتّدريس بها، فاستجاب لبعضها، ثمّ حمله إخوانه على إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي بمناسبة حلول شهر رمضان، فامتثل وألقى دروسًا تحت قبة النصر الشهيرة على طريقة الأمالي، فكان الشّيخ البشير يجعل عماد الدرس حديثًا يُمليه من حفظه بالإسناد إلى أصوله القديمة، ثم يمليه تفسيره بما يوافق روح العصر وأحداثه، فسمع النّاس شيئًا لم يألفوه ولم يسمعوه إلاّ في دروس الشيخ بدر الدين الحَسَنِي.
وبعد خروج الأتراك من دمشق وقيام حكومة الاستقلال العربي، دعته الحكومة الجديدة إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (وهي المدرسة الثانوية الوحيدة آنذاك) مشاركًا للأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك، فاضطلع بما حُمل من ذلك، وتلقّى عنه الطلبة دروسًا في الأدب العربي الصميم، وكانت الصفوف التي يدرّس لها الأدب العربي هي الصفوف النهائية المرشّحة للبكالوريا، وقد تخرّج عليه جماعة من الطلبة هم اليوم عماد الأدب العربي في سوريا منهم: الدكتور جميل صليبا، والدكتور أديب الروماني، والدكتور المحايري، والدكتور عدنان الأتاسي.
ولمّا دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق، اتّصل به وأراده على أن يبادر بالرجوع إلى المدينة ليتولّى إدارة المعارف بها، ولم يكن ذلك في نيته وقصده، لما طرأ على المدينة من تغيّر في الأوضاع المادية والنفسية، فأبى عليه، وما فتئ يلحّ عليه ويأبى إلى أن سنحت الفرصة فكرّ راجعًا إلى الجزائر موطن آبائه وعشيرته.